لن أتحدّث عن الحال البائس الذي ستصل إليه حالة حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام في الأردن بعد إقرار مشروع تعديلات قانون الجرائم الإلكترونية، لأن النيّة من مشروع القانون واضحة، وكذلك آثاره على الحرّيات أيضاً واضحة، ولا تحتاج إلى فلسفة ولا إلى تحليل ولا تحتمل" آمالاً" بأي تغيير، باختصار: "باي باي حرية".
لكنني وأنا أتابع وجوه الأردنيين بعد دخول تعديلات قانون الجرائم الإلكترونية حيّز التنفيذ، ولأنني أجزم أنني قادرة على قراءة الوجوه، استطعت أن أدرك أننا أصبحنا على عتبة طريق "التفشش"، و"التفشش" حسب المعجم الأردني يعني التنفيس عن الغضب بسبب أمر ما، وعلى أشياء وعلى أشخاص ليس لهم علاقة أو ارتباط بمن أغضبونا.
فما بالكم عندما يكون مسبّب غضبنا الحكومة الأردنية؟ بالتأكيد لن نُفرغ غضبنا عليها، فهي الضامنة اليوم أننا لن نتجرّأ على مواجهتها، بعد إقرارها لقانون يمنعنا من التعبير عن آرائنا، أو بالأحرى يُهدّد حرّيتنا إذا عبّرنا عن تلك الآراء، وبالتالي فالأردنيون اليوم ليس لهم حيلة سوى طريق "التفشش"، حماية لحريتهم وعدم زجهم في السجون، وحماية أيضاً لصحتهم من أمراض الجلطة والسكري!
ضمنت الحكومة الأردنية في مشروع تعديلاتها على قانون الجرائم الإلكترونية، بأن الشعب الأردني لن يعود كما كان في السابق، يُعبّر ويغضب ويقترح ويُحاسب ويُسائل ويتساءل على مواقع التواصل الاجتماعي، في كل مرة تحدث فيها قضية تهمّ الرأي العام، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، حصّنت الحكومة نفسها بالمواد التي طرحتها في القانون والتي تودي بالأردنيين، والأردنيات طبعاً، إلى السجون، في حال عبّروا عن آرائهم وعن هموهم في مختلف القضايا، تحت حجج "مجابهة خطاب الكراهية، ومنع الأخبار الكاذبة، وحماية النظام العام، والتماشي مع التطورات التكنولوجية".
إذاً، لا أهلاً ولا سهلاً بقانون الجرائم الإلكترونية، وأهلاً بمرحلة "التفشش"، وهنا سأحاول أن أتخيّل كيف سيكون شكل المرحلة، تتسرّب مثلاً معلومات تشي بوجود شبهة فساد بطلها مسؤول أردني سابق أو حالي أو "واصل"، تصل المعلومات للناشطين، للحقوقيين، للصحافيين، يدخلون على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير أو التعليق على الموضوع، يتذكرون أن فوق رقابهم قانوناً "يقص كل الرقاب"، في حال عبّروا أو انتقدوا، يصرخون بصوت عالٍ: "لا مش قادر أسكت"، فيرمون الموبايل إلى أبعد مدى، وحبّذا أن يكون غير قابل للكسر، لأنه حينها ستصبح المصيبة مصيبتين: أفواه مكمّمة بداعي القانون، وموبايل مكسور يحتاج إلى "بدجت" لإصلاحه.
الشعب الأردني، كغيره من الشعوب العربية، عصبي، مقهور، ولا يحبّ النفاق وتجاهل الظلم، لكنه اليوم ممنوع من أن يعالج همومه أو يعبّر عنها حتى ولو بتعليق، وبالتأكيد يكره سلوك "التفشش"، حتى أن "التفشش" يُعتبر صفة تذمّ أصحابها بالنسبة إلى الأردنيين، لكن هل ستدفع الحكومة الأردنية وقانونها ثمن تبعات هذا السلوك؟ أم أنها ستكون ضمانة أخرى بالنسبة إليها حتى يلتهي الأردنيون بما "جنوه" على أنفسهم بسبب "التفشش"؟ أعتقد أنها ستكون سعيدة على هذه المرحلة!
كما ذكرت، إن الشعب الأردني كغيره من الشعوب العربية، يرفض الظلم ويكرهه، ولكن أيضاً فيه الصفات السلبية الموجودة لدى كل الناس وكل الشعوب. وهنا، وأنا أتابع مواد القانون خصوصاً المتعلّقة بمحاسبة صاحب الصفحة على التعليقات التي يعلّقها متابعوه على ما ينشره، تذّكرت أن في بلدي أشخاصاً مؤذين، يتلذّذون بأذيّة الآخر، وتنبّهت إلى أن قانون الجرائم الإلكترونية جاء إلى هذه الفئة على طبق من ذهب!
كبسة تعليق واحدة من شخص يريد أن ينتقم من شخص آخر أصبحت كفيلة بأن تهدّد حريته وتسجنه، هل من المعقول أن من صاغ تلك التعديلات لم ينتبه إلى ذلك حقاً؟ أم أن وراء "أكمة" تلك "التعديلات ـ الفخ" ما وراءها؟ فبعيداً عن السياسة وعن السياسيين والمسؤولين، في الأردن مشكلات اجتماعية كثيرة، وهناك نزعة الانتقام عند الأشخاص المؤذين، وأصبحت مواد القانون توفّر عليهم التعب والمال وحتى التفكير عن طريقة لإيذاء الآخر.
هل من المعقول أن تصبح "ثقافة الثأر" في الأردن إلكترونية؟ الأمر ليس بمستحيل، فمثلاً يستطيع أي شخص في الأردن أن يُنشىء حساباً وهمياً، يكتب من خلاله تعليقاً على بوست نشره شخص يسعى إلى الانتقام منه، كفيل بأن "يودّيه ورا الشمس"، هذا هو حال بلدي اليوم: حرّيات مكبّلة بـ"حصانة" قانون، وثقافة ثأر قد تتطوّر بدلاً من دفنها، "يا حرام لوين وصلنا!".
تردّدت وما زلت متردّدة في نشر اسمي على المقال، وهو أمر جديد عليّ نوعاً ما، إذ هي مقالات معدودة التي كتبتها ونشرتها من دون ذكر اسمي لأنها كانت تخرق "التابوهات" في الأردن، والتي كانت في السابق فقط ثلاثة: العائلة المالكة والدين والجنس، لكن اليوم أصبح انتقاد طبخة على مواقع التواصل الاجتماعي تطبخها صديقتي، كفيلاً بأن يجعلني أقف أمام المدعي العام!
سأنشر اسمي، ولعلّ هذا "مقال الوداع" الذي أتجرّأ فيه على نشر اسمي على مادة صحافية أمارس حقّي فيها في التعبير والانتقاد، أقصد حقّي السابق... بصراحة؟ خائفة، لا بل... خائفة جداً.