لم تستثنِ المعارك في حلب اليوم، بشراً ولا حجراً، فقد تسببت تلك المعارك الضارية بين المعارضة المسلحة وبين جيش النظام الذي استعمل فيها الطيران الحربي، بالكثير من الكوارث على الصعيدين الانساني والتراثي التاريخي في الوقت ذاته، وكان آخر هذه التجليات الكارثية إحراق جامع بني أمية الكبير في حلب، المدينة التي أُدرجت في قائمة منظمة "اليونسكو" للتراث العالمي في عام 1986 تقديراً "لأنماط الهندسة المعمارية العربية النادرة والأصلية" بحسب بيان المنظمة.
لقد كان إحراق "الجامع الأموي الكبير" في حلب، آخر ما صدم المهتمين بالتراث والتاريخ الانساني، وهو أحد أكبر جوامع المدينة، وأحد معالمها التاريخية الاسلامية، ويُسمّى كذلك باسم "جامع زكريا" بسبب دفن قطعة من جسد النبي زكريا فيه. يقوم الجامع، أو كان، على مساحة يبلغ طولها 105 أمتار من الشرق إلى الغرب، وعرضها نحو 77.75 متراً من الجنوب إلى الشمال، ويعود تاريخ بنائه إلى العهد الأموي سنة 716 ميلادية، وبحسب المصادر فقد بناه خليفة الأمويين سليمان بن عبد الملك، وقد بُني في وسط المدينة على بستان المدرسة الحلاوية التي كانت أصلاً كنيسة للروم بنتها هيلانة أم الأمبراطور قسطنطين... واليوم هو مدمّر تماماً.
وفي سياق التدمير، تعرضت أحياء حلب القديمة للقصف المتكرر والعنيف من مدفعية كتائب جيش النظام السوري. ولمن لا يعرف حلب، فهي إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم، منذ ما لا يقل عن أربعة آلاف عام. وكانت يومها عاصمة لمملكة يمحاض الأمورية، وتعاقبت عليها بعد ذلك حضاراتٌ عدة مثل الحثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية. وقد تجاوز عمر المدينة المعروف الـ 10 آلاف عام، وتعتبر المدينة القديمة عبارة عن متحف للتاريخ.
وطال قصف جيش النظام أيضاً، جامع المهمندار التاريخي، والذي يسمى كذلك جامع القاضي، وقد أنشئ في العهد المملوكي، أي قرابة القرن الرابع عشر الميلادي، ويتميّز بمئذنته ذات الطراز المغولي المتأثرة بالمآذن السمرقندية، بناه حسن بن بلبان، تهدم المسجد في زلزال عام 1822، وبقيت المئذنة التي أعيد ترميمها سنة 1946، ولكن القصف طال المئذنة وكاد أن يُسقطها كلياً.
ولم تسلم كنيسة مار أسيا الحكيم في حلب أيضاً من القصف والتخريب، وقد شيّدت الكنيسة منذ نحو 500 سنة، وهو تاريخ رجوع المسيحيين إلى حلب بعد أن أبادهم هولاكو. كما تعرض المتحف الوطني لأضرار مادية بعد وقوع انفجار بالقرب منه. وبحسب المديرية العامة للآثار والمتاحف، فإن الأضرار اقتصرت على تهشم زجاج جميع نوافذ المتحف تقريباً، وسقوط السقف المستعار للمتحف.
كما لم يستثنِ القصف والتخريب قلعة حلب العريقة، والتي تُعدّ من أكبر القلاع في العالم ويعود تاريخها إلى عصور قديمة، وكانت قاعدة للكثير من الحكّام والملوك والقادة من العصر الآرامي وحتى العصر الإسلامي، وهي تقع وسط المدينة، ويوجد في داخلها جامعان، أقدمهما جامع إبراهيم الخليل الذي شيّده نور الدين زنكي عام 1162 ميلادي فوق خرائب كنيسة بيزنطية، أما الجامع الكبير فقد بناه الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي عام 1210 ميلادي. تعاقبت على القلعة حوادث وتواريخ كثيرة ولافتة، فقد ضمها الحثيون إلى إمبراطوريتهم، كما احتلها تحوتمس الثالث في العام 1457 قبل الميلاد وضُمت إلى آشور عام 738 قبل الميلاد، وحُصنت القلعة في عهد الاسكندر المقدوني لتستحيل معسكراً لجنود أحد قادته. أما في العصر الروماني والبيزنطي فقد كان للقلعة أهمية كبيرة وأضيف إليها العديد من المنشآت، وقد دخلها العرب المسلمون سنة 636 ميلادي، وصارت مركزاً للدولة الحمدانية في نهاية القرن العاشر الميلادي، فأوْلوا للقلعة اهتماماً كبيراً حيث بنوا السور والتحصينات فيها، ومن ثم أجرى السلاجقة بعض الإصلاحات عليها، وفي عهد الزنكيين في القرن الثاني عشر الميلادي وعلى يد نور الدين زنكي جرى ترميم السور المتهدم، الذي عاد ليتهدم اليوم بسبب قصف مدفعية جيش النظام له.
ومن الكوارث المفجعة التي لحقت بحلب وآثارها، حرق أسواقها القديمة، وهي 37 سوقاً متوازية أو متعامدة، يختص كل منها بنوع من البضائع والحرف كسوق القطن وسوق الحبال وسوق العطارين وأسواق أخرى، ويبلغ مجموع طول أسواق حلب 15 كيلومتراً، ومساحتها 16 هكتاراً، وتحمل طابع القرن السابع عشر الميلادي. تعود أصول أسواق حلب إلى القرن الرابع قبل الميلاد حيث أقيمت المحال التجارية على طرفي الشارع المستقيم الممتد بين القلعة وباب أنطاكية حالياً، وقد أخذت الأسواق شكلها الحالي في مطلع الحكم العثماني.
ولم يرحم القصف باب قنسرين الأثري الذي بناه سيف الدولة الحمداني وجدده الملك الناصر في القرن الثالث عشر الميلادي، ويقع الباب محاطاً بالعديد من الأوابد التاريخية والمباني الأثرية من مدارس قديمة ومساجد وجوامع ومقامات والكثير من الآثار الهامة في حلب القديمة.
كما طال القصف من بين الجوامع أيضاً جامع الإسماعيلية، الذي يعود بتاريخه الى القرن الثامن عشر الميلادي، أي بُني في فترة الحكم العثماني. ولحق الخراب والدمار أيضا مبنى دار زمريا القديم، وهو عبارة عن بيت قديم أحيل فندقاً، والمبنى القديم للهجرة والجوازات، كما طال القصف أحد الخانات الأثرية في مدينة حلب القديمة ودمّر أحد الحمامات الأثرية.
مأساة كبيرة طالت البشر والحجر في حلب، لا بل هي جريمة بحق التاريخ.. والتاريخ لن يرحم مرتكبيها.