بالتعاون مع مركز القانون والديمقراطية، تقوم مؤسسة سمير قصير بتقييم أبرز الأحكام القضائية اللبنانية المتعلقة بمسائل حرية الرأي والتعبير والصحافة، من منظور القانون الدولي وأفضل الممارسات. بعض هذه الأحكام أتى لصالح تعزيز الحريات، في حين أحكام أخرى ساهمت في التضييق على الحريات والحقوق. في ما يلي، دراسة الحالة الثانية، حول الحكم الصادر من المحكمة العسكرية ضد شادن فقيه في24 حزيران 2022، في القضية التي رفعتها ضدها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
الوقائع
لا يتضمّن الحكم القضائي الصادر بحقّ شادن فقيه إلا وقائع محدودة جداً، منها اسم المحكوم عليها (شادن إبراهيم فقيه) وتاريخ ميلادها (1992) وتاريخ وقوع الجرم (19 تشرين الثاني 2020) واسم محاميها. كما يوضّح الحكم طبيعة التّهم، أي انتهاك المادة 147/157 من قانون القضاء العسكري والمادة 383 من قانون العقوبات من خلال التصرّف بطريقة تمسّ بسمعة قوى الأمن الداخلي وتحقير عناصر قوى الأمن الداخلي أثناء الوظيفة.
لكنّ ملخّصاً آخر للوقائع يُظهر أنّ شادن فقيه كانت، في وقت حدوث الواقعة، فنّانةً كوميدية وناشطةً لبنانية. في فترة الإقفال التام والقيود على الحركة بسبب فيروس كوفيد-19 (تحديداً في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، اتّصلت شادن بالخط الساخن لقوى الأمن الداخلي، وطلبت الإذن بمغادرة بيتها لشراء فوط صحية نظراً إلى بداية دورتها الشهرية. بعد ذلك، نشرت فيديو لها وهي تُجري هذا الاتصال على صفحتها على إنستاغرام. بعد ذلك، قدّمت قوى الأمن الداخلي شكوى ضدّها، تمّ على أثرها استدعاؤها من قِبل مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية الذي قام باستجوابها ثم توجيه الاتّهامَين المذكورَين أعلاه ضدّها.
نظرت في الدعوى المحكمة العسكرية الدائمة في بيروت، ممثَّلةً بموظفَين عسكريَّين اثنين - هما رئيس المحكمة و"مستشار" - فضلاً عن "مستشار مدني" يعمل كقاضٍ أيضاً. فجادل فريق الدفاع بأنّ المحكمة لا تملك اختصاص النظر في القضية بناءً على المادة 2 من "أصول المحاكمات المدنية"، وأنّ الدعوى تفتقر إلى العناصر الجرمية الأساسية. جدير بالذكر أنّ الحكم لم يُشِر إلى الحجج التي أوردها المدعي العام.
الحكم القضائي
استمعت المحكمة إلى القضية وأصدرت حكمها في 24 حزيران/ يونيو 2022. فرفضت حجّة الدفاع المتعلّقة باختصاص المحكمة بناءً على المادتين 24 و147 من قانون القضاء العسكري والمرسوم الاشتراعي رقم 110/1977، مؤكّدة بموجب هذه النصوص أنها تتمتّع باختصاص النظر في الجرائم الجنائية التي يُزعم أنّ المتّهمة قد ارتكبتها.
أشار الحكم إلى عشرة أسئلة أثارتها الدعوى، على الشكل التالي:
أولاً: [فراغ][1]
ثانياً: هل أنه في الأراضي اللبنانية، وبتاريخ 19/11/2020، أقدمت المدعى عليها: شادن إبراهيم فقيه:
ثالثاً: [فراغ]
رابعاً: [فراغ]
خامساً: [فراغ]
سادساً: هل إنّ في القضية أسباباً توجب امتناع الإسناد (أسباب التبرير)؟
سابعاً: هل إنّ في القضية أعذاراً مُحلّة؟
ثامناً: هل إنّ في القضية ظروفاً مشدّدة؟
تاسعاً: هل إنّ في القضية أعذاراً مخفّفة؟
عاشراً: هل إنّ في القضية ظروفاً مخفّفة؟
اتّخذت المحكمة قراراتها بالإجماع في ما يتعلّق بالأسئلة الأساسية السبعة كلّها. فأجابت بـ "نعم" عن كِلا جزءَي السؤال 2 و"كلّا" عن كافة الأسئلة الأخرى، باستثناء السؤال العاشر الذي أجابت عنه بـ "نعم".
بناءً على الاستنتاجات التي توصّلت إليها المحكمة من خلال السؤال 2، اعتبرت أنها تستوجب إدانة المتهمة بارتكاب جنحة. لكنها لم تدخل في أي نقاش حول تأثير النتائج التي توصّلت إليها في الأسئلة 6 - 10، ولا بوثاقة هذه النتائج بالموضوع المطروح. عوضاً عن ذلك، اكتفت بذكر أنّ الجرم المذكور في المادة 147/157 من قانون المحاكمة العسكرية يستحق عقوبة حبس لمدة أربعة أشهر تُستبدل بغرامة قدرها مليون ومئتا ألف ليرة لبنانية (حوالى 800 دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي آنذاك)، وأنّ الجرم الوارد في المادة 383 من قانون العقوبات يستدعي عقوبة حبس لشهرين، تُستبدل بغرامة 600 ألف ليرة (حوالى 400 دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي آنذاك). كما قضت المحكمة بحبس المتهمة يوماً واحداً عن كل 10 آلاف ليرة عند عدم الدفع (أي ما يصل إلى 180 يوماً أو ما يعادل عقوبة الحبس نفسها التي استبدلتها الغرامتان).
التحليل
لعلّ أول تعليق ينبغي ذكره هنا هو أنّ المعايير الدولية تُحظّر، بشكل عام، محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. فتُعتبر هذه الأخيرة محاكم خاصة، والغرض منها هو محاكمة العناصر العاملين ضمن القوات المسلّحة للدولة، وليس البتّ في الجرائم التي ترتبط بطريقة أو بأخرى بالقوات المسلّحة، كما كانت الحال هنا. من المحتمل أن يُطبِّق هذا النوع من المحاكم قواعد إجرائية أقلّ صرامةً، أو مختلفة بكل بساطة، مع تبرير ذلك بالطبيعة العسكرية للدعوى، ولكن لا ينبغي تطبيق هذه القواعد في الحالات التي تشمل مدنيين. صحيح أنّ هناك بعض الاستثناءات المحدودة لهذا الأمر، لكن لا شيء في هذه القضية يستدعي تطبيق استثناءات كهذه. فهي قضية شخص مدني يتصرّف بصفة مدنية بحتة. صحيحٌ أنّ المدّعى عليها تواصلت مع قوى الأمن الداخلي، إلا أنّ موضوع اتصالها كان، بدوره، ذا طبيعة مدنية تماماً، وبالتحديد حول ما إذا كان يمكن إعفاؤها من الامتثال لقيود كوفيد-19 التي كانت قد فُرضت على المدنيين لأهداف مدنية.
مع أنه يمكن التشكيك في جدوى سلوك المدّعى عليها، لكن من الصعب فهْم كيف يمكن توجيه تهم جنائية مشروعة لها. من المؤكّد أنّ التّهم المحدّدة الموجّهة في هذه القضية غير مشروعة. فينصّ القانون الدولي، بشكل واضح، على أنه لا ينبغي منح السلطات العامة، كقوى الأمن الداخلي مثلاً، إمكانية رفع دعاوى قضائية للدفاع عن سمعتها، حتى وإن كانت هذه الدعاوى تتعلّق بتشهير أحد المدنيين بها. عوضاً عن ذلك، يجب أن تكون متقبّلة لأي نوع من الانتقادات، مهما كانت مجحفةً أو غير مبرّرة. في هذا الإطار، في قضية ديولدين وكيسلوف ضدّ روسيا، ارتكزت التّهم على بيان تضمّن العبارة التالية: "باشرت السلطات الإقليمية بأعمال انتقامية من الإعلام المستقلّ". فخلصت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى وجود انتهاك للحقّ في حرية التعبير، إلى جانب غيرها من الانتهاكات، خاصةً وأنه لا يمكن للسلطات العامة رفع دعوى تشهير للدفاع عن سمعتها، مبيّنةً ما يلي:
"تُكرّر المحكمة أنّ أحد الشروط الأساسية لقانون التشهير هو ضرورة أن يُشير البيان التشهيري إلى شخص معيّن لكي تُقام الدعوى. فإذا سُمح لجميع مسؤولي الدولة رفع قضية تشهير في كل مرة يتمّ فيها انتقاد إدارة شؤون الدولة، حتى وإن لم تتمّ الإشارة إلى المسؤول بالاسم أو بطريقة أخرى يمكن أن تُعرّف عنه، سيغرق الصحافيون تحت وابل من الدعاوى القانونية. وسيؤدي هذا الأمر إلى الإلقاء بحمل مفرط وغير متناسب على كاهل الإعلام، على نحو يساهم في استنزاف موارده وإغراقه في دعاوى غير متناهية. وليس هذا فحسب، بل سيُخلّف هذا الأمر أيضاً تأثيراً سلبياً على الصحافة، ويُضعف أداءها كمقدّم للمعلومات ومراقب للسلطات العامة".[2]
يُتوقّع من عناصر قوى الأمن الداخلي تحمّل درجة عالية من الانتقادات، مع العلم أنّ هذا الأمر لا ينطبق على كافة مسؤولي القطاع العام، بمن فيهم عناصر قوى الأمن. ولا يخفى على أحد أنّ تهم التحقير بعناصر قوى الأمن الداخلي أثناء الوظيفة هي شكل من أشكال دعاوى التشهير. في هذه القضية، تُعتبر المعلومات التي نشرتها المدّعى عليها عن هؤلاء العناصر صادقةً تماماً بطبيعتها، كونها نشرت فيديو فعلياً لاتصالها بقوى الأمن. وبطبيعة الحال، لا يمكن أبداً توجيه تهمة تشهير مشروعة إذا كانت القضية تنطوي على بيانات صحيحة أو صادقة. أخيراً، بموجب القانون الدولي، يجب التعامل مع جرائم التشهير باعتبارها دعاوى مدنية، وبالتالي من غير المشروع أبداً فرض عقوبة حبس على فعل التشهير، حتى وإن تمّ استبدال العقوبة هنا بغرامة.
لم تُوجّه إلى المدّعى عليها تهمة عرقلة عمل عناصر قوى الأمن الداخلي أثناء الوظيفة. يُعتبر حظر هذا النوع من السلوك مشروعاً، طالما أنّ نطاقه سيبقى ضيّقاً على نحوٍ مقبول. ويُقصد بذلك عادةً العرقلة المادية لعمل هؤلاء العناصر، بالرغم من أنه يمكن الاعتبار، في حالات معيّنة، أنّ "مجرّد" الإلقاء بتصريحات قد يندرج ضمن خانة العرقلة، كالصراخ بينما يحاول المسؤولون التواصل مع أشخاص آخرين. نظرياً، يمكن في هذه الحالة التحجّج بأنّ أحد مكوّنات عرقلة العمل كان متوفراً، خاصةً وأنّ المدّعى عليها ألهت العناصر عن أداء عملهم الأساسي من غير داعٍ. لكنّ طبيعة التّهم تُثبت بشكل واضح أنّ قوى الأمن الداخلي اعترضت على قيام المدّعى عليها بتصوير عناصرها كأغبياء، وليس على تدخلها في عملهم. حتى في هذه الحالة نفسها، لا ينبغي أن تؤدي مثل هذه المزحة البسيطة (التي يمكن وصفها بغير المسؤولة وليس بالخبيثة) إلى توجيه تهمة جنائية أبداً (بل ربما من الأنسب توجيه إنذار بعدم تكرار فعلتها أبداً).
[1] ليس من الواضح ما تشير إليه الخانات "[فراغ]".
[2] Dyuldin and Kislov v. Russia, 7 June 2007, Application No. 1914/02, para. 43.