من المعروف أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتمتّع بمشهد اجتماعي وثقافي غنيّ ومعقّد. فهي تحتضن مجموعةً متنوّعةً من الطوائف الدينية، كالمسلمين، والمسيحيين (بكل ما تحويه هذه الطوائف من مذاهب)، واليهود، وغيرهم من الأقلّيات. لكن يتعكّر صفو هذا التنوّع بسبب تاريخ من العنف والقمع الموجّه ضدّ الأقلّيات. صحيحٌ أن لكلّ دولة في المنطقة مقاربتها الخاصة في التعامل مع التنوّع الديني، لكنّ النزاعات وانعدام الاستقرار السياسي تزيد الطين بلّةً في أغلب الأحيان، ممّا يؤدي إلى تباطؤ مسار التقدّم باتّجاه تحقيق التسامح الديني.
على سبيل المثال، يضمّ العراق أغلبيةً من المسلمين الشيعة، مع نسبة ملحوظة من السنّة والمسيحيين واليزيديين وغيرهم من الأقلّيات الدينية. وهو يعاني، منذ سقوط الرئيس صدام حسين في 2003، من الفتنة الطائفية، في ظلّ تعرّض بعض الأقلّيات مثل المسيحيين واليزيديين للعنف، وتورّط مجموعات سنّية وشيعية راديكالية مسلّحة في اشتباكات عنيفة في مراحل متعدّدة من تاريخ البلاد الحديث. وبالرغم من صدور قانون في 2019 لتعزيز الحرّيات الدينية والدفاع عن الأقلّيات في العراق، ما زال النزاع المستمر مع تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، بالإضافة إلى النفوذ الإيراني والميليشيات الشيعية، يُخلّف آثاراً مدمّرة على الأقلّيات التي يتمّ التعامل معها كأضرار جانبية.
في لبنان، وضعت الحرب الأهلية أوزارها رسمياً في 1990، لكنّ الطائفية ما زالت متفشّية حتى يومنا هذا. فيواجه البلد حالياً مجموعةً كبيرةً من الأزمات التي تؤدّي إلى تصاعُد حدّة التوتّر، ومنها النفوذ المتزايد لحزب الله، والانهيار الاقتصادي، والإجراءات القمعية ضدّ حرية التعبير، فضلاً عن تشتّت المعارضة. بالإضافة إلى ذلك، ترتكز السياسة اللبنانية على نظام طائفي يستمدّ قوّته من الزبائنية والمحسوبيات، بدعم من رؤساء الطوائف، في أجواء بات فيها الفساد والإفلات من العقاب هما المعيار السائد. للأسف، أدّى كل ذلك إلى الإطاحة بمحنة المجتمعات المهمّشة من أجندة السياسات في لبنان.
أما السودان ذو الأغلبية المسلمة، فيتعرّض لمستوىً كبير من التوتّر والعنف في السنوات الأخيرة. بعد تطبيق الشريعة الإسلامية في 1983، انجرفت البلاد في حرب أهلية استمرت عشرين عاماً، تعرّض فيها غير المسلمين للاضطهاد. ومع أنّ الحرب انتهت رسمياً في 2005، لم ينلْ جنوب السودان استقلاله إلا في 2011. في 2019، أُطيح بالرئيس عمر البشير، ثم تشكّلت حكومة مدنية انتقالية بدأت تُدافع عن تعزيز الحرّيات الدينية في السودان. بالرغم من ذلك، ما زالت الانتهاكات التي تطال الشرائح غير المسلمة من المجتمع سائدةً. ونظراً إلى النزاع المسلّح المستمرّ في الخرطوم في 2023، بين القوات الحكومية والفصائل المتناحرة، من الصعب توقّع ما سيُخلّفه ذلك من تأثير على الأقلّيات الدينية.
من هذا المنطلق، تمّ إعداد هذه الدراسة ضمن إطار مشروع "إنكواير" المنفّذ بقيادة منظمة "إنترنيوز"، وهو المشروع الذي تولّت مؤسسة سمير قصير إدارة عدّة أنشطة فيه. تهدف هذه الدراسة إلى تحسين المعايير الصحفية والأخلاقية التي تُنظّم كيفية تغطية المواضيع الحسّاسة المتعلّقة بالأقلّيات الدينية. فلا يخفى على أحد أنّ كل دولة تملك ظروفاً مختلفة عن غيرها، وبالتالي تُشكّل الحرّيات الدينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا موضوعاً معقّداً جداً ومتعدّد الأوجُه. من هنا، تتعمّق هذه الدراسة، إلى جانب العناصر المتعارف عليها كالتاريخ، والحوكمة، وقضايا الساعة، في الخطابات التي تنشرها أبرز السلطات الدينية في العراق ولبنان والسودان، متمعّنةً، بشكل أكثر تحديداً، في تحليل الكلمات التي تستخدمها، ونبرتها، وسرديّتها، فضلاً عن معايير أخرى.