أدّى كل من التنوّع الطائفي والموقع الجغرافي والنظام السياسي الحرّ في البلاد إلى تحويل بيروت إلى مركز رائد للصحافة والطباعة في المشرق العربي. فكانت بيروت وجهة التقاء أهم رجال الفكر، خاصّةً المعارضين السياسيين من جميع أنحاء الشرق الأوسط، حيث كانوا يجتمعون وينتجون أفضل الأفكار والكتب والمقالات. كما لجأت العديد من القوى العربية - والإقليمية لاحقًا - إلى إرسال أموال طائلة إلى وسائل الإعلام في بيروت للترويج لسياساتها وأجنداتها. فقد ساهمت كل العوامل المذكورة أعلاه في نمو الإعلام اللبناني في قطاعيه المطبوع والسمعي-البصري.
خلال الحرب الأهلية التي امتدّت من عام 1975 حتّى 1990، استغلّت الأحزاب السياسية والميليشيات المُقاتلة الانهيار شبه التام لأجهزة إنفاذ القانون بهدف إطلاق قنوات إذاعية وتلفزيونية خاصّة وغير مُنظمة. أمّا بعد اتّفاق الطائف عام 1989، الذي دعا إلى تفكيك جميع وسائل الإعلام غير القانونية التي تم إنشاؤها خلال سنوات النزاع، أصدر مجلس النواب اللبناني قانون الإعلام المرئي والمسموع في عام 1994، الذي نصّ على شروط ومعايير البث الإذاعي والتلفزيوني. وبموجب هذا القانون قامت الحكومة بتوزيع تراخيص لبعض وسائل الإعلام وأغلقت البعض الآخر. أمّا في الواقع، فمُنحت التراخيص - أو رُفضت - على أسس سياسية وطائفية كوسيلة لتعزيز هيمنة النظام السوري، الذي كان يمارس سيطرة عسكرية وسياسية مباشرة على السياسة اللبنانية بعد الحرب.
لكن معظم هذه التجارب يفتقر إلى العديد من العناصر الأساسية المرتبطة بالصحافة المستدامة، ومنها: ضمان الاستقلالية التحريريّة، والالتزام بالمعايير الأخلاقية للصحافة، والتحقيق، والتحليل والاستقصاء، والتدقيق في الحقائق، وتوفير تجربة مبتكرة للمستخدم على صعيد الشكل والمظهر، واعتماد نماذج قائمة على الاستدامة المؤسسية.
من هنا، شرع العديد من الصحفيين المستقلّين والخرّيجين الشباب في مغامرة صعبة تتمثّل في إنشاء منصّات إعلاميّة إلكترونيّة تعالج أوجه القصور العديدة القائمة في المشهد الإعلامي اللبناني التقليدي. وعلى الرّغم من حصول هذه المنصّات على دعم كبير من العديد من المانحين الدوليين والمنظّمات المعنيّة بتطوير الوسائل الإعلامية، إلّا أن القيود الديموغرافية والمؤسسية لا تزال تُعيق هذه المنصّات عن تحقيق كامل إمكاناتها. فعلى سبيل المثال، ثمة افتراض بأن محتوى الوسائل الإلكترونية المستقلّة يتم استهلاكه فقط من قبل شرائح محدودة من الجمهور، وهي الفئة الحضريّة والشابّة، من الطبقة المتوسّطة العليا، وذلك وسط التحوّلات القائمة على صعيد كيفية تلقّي القراء والمشاهدين الشباب للمعلومات المطلوبة وتتبّعهم لها، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. لذلك، أصبح من الضروري التوجّه نحو اعتماد التأثيرات البصرية والمتحرّكة لعرض الحقائق والآراء بهدف جذب انتباه المستخدمين.
تهدف هذه الدراسة إلى تقييم عامليْن أساسيّيْن للاستدامة بناءً على عيّنة من هذه الوسائل الإعلامية الجديدة والمستقلة عبر الإنترنت في لبنان:
بالإضافة إلى ذلك، تم التعمّق في تحليل منظور الشباب وطلّاب الجامعات إزاء مصادر المعلومات المختلفة هذه، سعيًا إلى فهم تداعيات الأحداث والتصدّعات السياسية الكبرى التي شهدها لبنان منذ عام 2019، ومن أبرزها الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، وجائحة فيروس كورونا وانفجار بيروت في 4 آب/أغسطس 2020.
في هذا السياق، هناك افتراض متكرر مفاده أن المجموعات الاجتماعية الشابّة على وجه الخصوص تشكّك في مصداقية وسائل الإعلام التقليدية بشكلٍ كبير، وبدلاً من ذلك تختار منصات غير تقليدية وبديلة عبر الإنترنت للحصول على الأخبار والتحليل والتعليق. ويُفترض أن هذا الاتّجاه المتغيّر مُتجذّر في النهج الحديث والأكثر جرأة وخضوعاً للمساءلة الذي تعتمده هذه الوسائل مما يعكس الأصوات المناهضة والمُعارضة بشكلٍ أكبر. ويقترن ذلك بالتواطؤ الملحوظ لوسائل الإعلام التقليدية مع القوى السياسيّة الحاكمة، مفتقرةً إلى نهج استقصائي تجاه معظم مشاكل البلاد. ويهدف هذا البحث أيضًا إلى إعادة تقييم أنماط استهلاك وسائل الإعلام من قبل هذه الفئات الاجتماعية المُعيّنة لتقييم مدى ولائهم لمصدر إخباري معيّن.