منذ أن أصبح استخدام وسائل الاتصال بمتناول الجميع، أضحى العالم، من نواحٍ كثيرة، أصغر حجماً. فيُعتبر التبادل الثقافي اليوم جزءاً لا يتجزّأ من المجتمعات التي تزداد تنوّعاً يوماً تلو الآخر. وتؤدي وسائل الإعلام دوراً أساسياً في هذه المعادلة كونها تنقل رسائل معيّنة إلى الجماهير. فيؤثّر المضمون الذي تنقله هذه الرسائل وطريقة نقلها على درجة التسامح والتعايش المشترك. للأسف، لا تُعتبر بعض هذه التغطيات الإعلامية الخيار الأمثل دوماً لتطوير مجتمعات تعدّدية، خاصةً في العالم العربي حيث يُعتبر امتلاك وسيلة إعلامية ترفاً لا تتمتع به إلا حفنة من اللاعبين السياسيين والاقتصاديين بين النخبة الحاكمة التي لطالما همّشت الفئات المجتمعية الأخرى. نتيجةً لذلك، باتت حرية التعبير، والحقوق الثقافية، وبالتالي الديمقراطية والعدالة معرّضة للخطر في وقت لا تحظى فيه الأقلّيات (والفئات المهمّشة، حتى وإن كانت تمثّل شريحةً كبيرةً جداً من السكان) بفرصة عادلة للتعبير عن نفسها والإدلاء بوجهات نظرها.
يؤدي الدين دوراً بارزاً في الدول العربية، أكان ذلك في الحياة اليومية أو في المجال السياسي الواسع النطاق. وتعكس وسائل الإعلام ذلك، خاصةً وأنها تُصوّر التنوّع في بعض الأحيان كمصدر تهديد، مردّدةً أصوات الجهات المالكة لها، أياً كانت هذه الجهات. في هذا الإطار، يتمثّل هدف هذه الدراسة بالتمعن في المحتوى الذي تُنتجه أبرز وسائل الإعلام في كلّ من الدول الثلاث المشمولة بالدراسة (العراق، لبنان والسودان)، وفهم كيف يناقش الإعلام في كلّ حالة المواضيع المتعلّقة بالفئات الدينية المختلفة، مع إيلاء اهتمام وثيق بطريقة تصوير الأقليات الدينية. في أفضل الأحوال، سيتمّ استخدام هذه البيانات لاحقاً لتطوير وسائل الإعلام وتمكينها من تعزيز الحوار الجيّد واستخدام المعلومات المثبتة، مما سيساهم بدوره، وبدرجة كبيرة، في تحقيق السلام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بشكل عام.
بالإضافة إلى ذلك، ليس من السهل دوماً التأكّد مما إذا كانت آراء شخص أو مصدر معيّن تمثّل فعلاً وسيلة إعلامية معيّنة أم لا. فمن المحتمل أن يقتصر دور هذه الوسيلة على نقل واقع ما بكل بساطة. مع ذلك، هذا لا ينفي أنها تؤدي هنا دور المنصّة التي تنقل رسالةً معيّنة، أسلبيةً كانت أم إيجابية، تحت غطاء نقل الأخبار بشكل "محايد". لذا، من الضروري أخذ كلا الاحتمالين في الاعتبار.
لفهم هذا الأمر بشكل أفضل، تمّ اختيار ورصد 482 مادة متعلقة بالدين، والحرّيات الدينية، والتنوّع الديني، من أصل الكميات الهائلة من المحتويات الصادرة عن وسائل الإعلام المشمولة بالدراسة: فتمّ اختيار 163 مادة من وسائل إعلام عراقية، و259 من وسائل إعلام لبنانية، و60 من وسائل إعلام سودانية.
خلال عملية الرصد، بدا من الواضح أنّ المواضيع الاجتماعية والسياسية كانت أكثر حضوراً في النقاش العام، في حين أنّ المواضيع الأكثر تقنيةً، كالبيئة والعلوم، اعتُبرت معقّدة أو حتى عديمة الأهمّية. زِد على أنها تستغرق وقتاً لتُفضي إلى النتائج التي تؤثّر على الحياة اليومية، في حين أنّ قراراً واحداً من قائد سياسي أو المجموعة الدينية "الأخرى" يمكن أن يخلّف نتائج مباشرة على "حياتنا"، لا بل قد يودي "بنا" إلى نهاية أمرنا. وقد لوحظ أنّ خطاب الكراهية الديني السافر كان أقل انتشاراً بكثير من التلميحات الضمنية غير المباشرة الموجّهة ضد شرائح معيّنة من المجتمع.
ركّزت وسائل الإعلام العراقية، بشكل ثابت، على المواد المتعلّقة بالحرّيات الدينية أو التنوّع. فتشاركت الحكومة والوسائل الإعلامية ذات التوجّه الشيعي خطاباً متشابهاً إلى حدٍّ كبير، يقوم على التنديد الكامل بالحركات العنفية، وتشجيع السلمية منها، مع اعتماد استراتيجية التصوير الذاتي الإيجابي. في المقابل، روّجت وسائل إعلامية أخرى لخطاب معاكس، مسلّطةً الضوء بين الحين والآخر على العنف الذي تمارسه الحكومة ضدّ المتظاهرين بشكل عام، فضلاً عن الدور السلبي للميليشيات الشيعية وإيران في السياسة العراقية. ولم يتمّ التطرّق إلى الأقلّيات إلا لماماً، مع تصويرها كفئات مقموعة ومستضعفة. مع ذلك، لم تلقَ قضايا هذه الأقلّيات تغطيةً على غرار القضايا المتعلّقة بالعلاقات السنية - الشيعية.
أما في لبنان، فقد بدا للوهلة الأولى أنّ نقل الأخبار بطريقة محايدة هو السمة الأبرز لوسائل الإعلام اللبنانية. مع ذلك، كان الخطأ الملحوظ الأكثر تكرراً منهجياً بطبيعته. فشمل ذلك استخدام مصطلحات خاطئة أو مضلّلة، منها الكثير ممّا جمع طوائف دينية برمّتها تحت غطاء أحزاب سياسية معيّنة، ممّا يعكس لا انعدام الدقّة فحسب، بل يُغذّي العقلية الطائفية للمشاهدين أيضاً. بغضّ النظر عن النظام السياسي المعتمد في لبنان، لا تعكس هذه الأخطاء البيئة السياسية الحقيقية السائدة في البلاد.
في حالة السودان، شغلت عملية صنع السلام بين الشمال والجنوب معظم حيّز النقاش. فسُجّلت وجهات نظر عدائية جداً تجاه الديانات المختلفة عن الإسلام في بعض وسائل الإعلام المحلية: مثلاً تجاه المسيحيين والشيعة وفي حالة واحدة تجاه اليهود، مع أنّ أسباب ذلك ما زالت غير واضحة. فضلاً عن ذلك، اعتُبرت العلمانية وحقوق الإنسان والقيم الغربية، في أغلب الأحيان، هدفاً للهجمات. لكنّ وسائل الإعلام الكائنة خارج السودان اعتمدت مقاربةً متناقضةً تماماً، حيث دافعت غالباً عن حقوق الأقلّيات، منتقدةً بشكل صريح بعض الخطابات السياسية السودانية.
أظهرت الدراسة أنّ أكثرية وسائل الإعلام المشمولة بالرصد لم تنشر خطاب الكراهية بشكل مباشر، لكنّ الكثير منها قام، بشكل ضمني، بنقل أخبار شرائح معيّنة من المجتمع من زاوية محدّدة. فكان انتماء الوسيلة الإعلامية السياسي وتمويلها يحدّدان ما إذا كانت هذه الزاوية ستكون إيجابية أم سلبية، والمواضيع التي سيتمّ تسليط الضوء عليها. صحيحٌ أنّ تغيير التحيّز في الاختيار داخل المؤسسات قد يكون صعباً، لكن يمكن للصحافيين الأفراد أن يؤدّوا دورهم أيضاً في رفع المعايير الصحفية. من هنا، تشمل أبرز التوصيات استخدام المصطلحات والمصادر الصحيحة، وعرض وجهات نظر متنوّعة، واعتماد مقاربة أكثر أخلاقية عند نقل الأخبار. ولعل أفضل طريقة لتعزيز هذه الإجراءات هي تنظيم ورش العمل وتأمين الإرشاد والتوجيه المستمرَّين.